في أهل الزكاة




في أهل الزكاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا الحمد لله الذي لا رافع لما وضع ، ولا واضع لما رفع ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولا قاطع لما وصل ، ولا واصل لما قطع ، فسبحانه من مُدَبِّر عظيم ، وإله حكيم رحيم ، فبحكمته وقع الضرر وبرحمته نفع ، أحمده على جميع أفعاله ، وأشكره على واسع إقباله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أحكم ما شرع وأبدع ما صنع ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله والكفر قد علا وارتفع ، وصال واجتمع ، فأهبطه من عليائه وقمع ، وفرَّق من شَرِّهِ ما اجتمع ، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الذي نَجَمَ نَجْمُ شجاعته يوم الردة وطلع ، وعلى عمر الذي عز به الإسلام وامتنع ، وعلى عثمان المقتول ظلما وما ابتدع ، وعلى علي الذي دحض الكفر بجهاده وقمع ، وعلى جميع آله وأصحابه ما سجد مُصَلٍّ وركع ، وسلم تسليما .
أما بعد ... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (آل عمران102)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب 71)

وبعد:ـ أيها الأخوة الأعزاء
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
المجلس السابع عشر :
في أهل الزكاة
قال الله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 60 ] .
في هذه الآية الكريمة بَيَّن الله تعالى مصارف الزكاة وأهلها المستحِقِّين لها بمقتضى علمه وحكمته وعدله ورحمته ، وحصرها في هؤلاء الأصناف الثمانية ، وبين أن صرفها فيهم فريضة لازمة ، وأن هذه القسمة صادرة عن علم الله وحكمته ، فلا يجوز تَعَدِّيها وصرف الزكاة في غيرها ؛ لأن الله تعالى أعلم بمصالح خلقه وأحكم في وضع الشيء في موضعه { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
[ المائدة : 50 ] .
* فالصنف الأول والثاني : الفقراء والمساكين وهم الذين لا يجدون كفايتهم ، وكفاية عائلتهم لا من نقود حاضرة ، ولا من رواتب ثابتة ، ولا من صناعة قائمة ، ولا من غلة كافية ، ولا من نفقات على غيرهم واجبة ، فهم في حاجة إلى مواساة ومعونة ، قال العلماء : فيُعْطَوْن من الزكاة ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة كاملة حتى يأتي حول الزكاة مرة ثانية ، ويعطى الفقير لزواج يحتاج إليه ما يكفي لزواجه ، وطالب العلم الفقير لشراء كتب يحتاجها ، ويعطى من له راتب لا يكفيه وعائلته من الزكاة ما يُكَمِّل كفايتهم لأنه ذو حاجة ، وأما من كان له كفاية فلا يجوز إعطاؤه من الزكاة وإن سألها ، بل الواجب نصحه وتحذيره من سؤال ما لا يحل له ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه مُزْعَة لحم ) (متفق عليه) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من سأل الناس أموالهم تَكَثُّرًا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر ) (رواه مسلم) .
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( إن هذا المال خَضِرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى ) (متفق عليه)
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ) (رواه أحمد , وروى نحوه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري وقال : حسن صحيح) ، وإن سأل الزكاة شخص وعليه علامة الغنى عنها وهو مجهول الحال جاز إعطاؤه منها بعد إعلامه أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ؛ ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجلان يسألانه فقَلَّب فيهما البصر فرآهما جلدين فقال : " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، وقال أحمد : ما أجوده من حديث )
* الصنف الثالث من أهل الزكاة : العاملون عليها وهم الذين يُنَصِّبهم ولاة الأمور لجباية الزكاة من أهلها وحفظها وتصريفها ، فيُعْطَوْن منها بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء ، وأما الوكلاء لفرد من الناس في توزيع زكاته فليسوا من العاملين عليها فلا يستحقون منها شيئا من أجل وكالتهم فيها ، لكن إن تبرعوا في تفريقها على أهلها بأمانة واجتهاد كانوا شركاء في أجرها ، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الخازن المسلم الأمين الذي يُنَفِّذ ) ، أو قال : ( يعطي ما أُمِرَ به كاملا موفَّرا طيبا به نفسه ، فيدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين ) (رواه البخاري) ، وإن لم يتبرعوا بتفريقها أعطاهم صاحب المال من ماله لا من الزكاة .
* الصنف الرابع : المؤَلَّفة قلوبهم وهم ضعفاء الإيمان أو من يُخْشَى شرُّهم ، فيعطون من الزكاة ما يكون به تقوية إيمانهم أو دفع شرهم إذا لم يندفع إلا بإعطائهم .
* الصنف الخامس : الرقاب وهم الْأَرِقَّاء المكاتَبون الذين اشتروا أنفسهم من أسيادهم ، فيعطون من الزكاة ما يوفون به أسيادهم ليحرِّروا بذلك أنفسهم ، ويجوز أن يُشْتَرَى عبدٌ فيُعْتَق وأن يُفَك بها مسلم من الأسر لأن هذا داخل في عموم الرقاب .
* الصنف السادس : الغارمون الذين يتحملون غرامة وهم نوعان :
* أحدهما : من تحمل حمالة لإصلاح ذات البين وإطفاء الفتنة فيعطى من الزكاة بقدر حمالته تشجيعا له على هذا العمل النبيل الذي به تأليف المسلمين وإصلاح ذات بينهم وإطفاء الفتنة وإزالة الأحقاد والتنافر ، عن قبيصة الهلالي قال : ( تحملت حمالة فأتيت
النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " . ثم قال : " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ) ، وذكر تمام الحديث (رواه مسلم) .
* الثاني : من تحمل حمالة في ذمته لنفسه وليس عنده وفاء فيُعْطَى من الزكاة ما يُوَفِّي به دينه وإن كثر أو يوفي طالبه وإن لم يسلَّم للمطلوب ؛ لأن تسليمه للطالب يحصل به المقصود من تبرئة ذمة المطلوب .
* الصنف السابع : في سبيل الله وهو الجهاد في سبيل الله الذي يُقْصَد به أن تكون كلمة الله هي العليا لا لحمية ولا لعصبية ، فيُعْطَى المجاهد بهذه النية ما يكفيه لجهاده من الزكاة ، أو يُشْتَرَى بها سلاح وعتاد للمجاهدين في سبيل الله لحماية الإسلام والذود عنه وإعلاء كلمة الله سبحانه .
* الصنف الثامن : ابن السبيل وهو المسافر الذي انقطع به السفر ونفد ما في يده فيُعْطَى من الزكاة ما يوصله إلى بلده وإن كان غنيا فيها ووجد من يقرضه ، لكن لا يجوز أن يستصحب معه نفقة قليلة لأجل أن يأخذ من الزكاة إذا نفدت لأنه حيلة على أخذ ما لا يستحق ، ولا تُدْفَع الزكاة للكافر إلا أن يكون من المؤلَّفة قلوبهم ، ولا تدفع لغني عنها بما يكفيه من تجارة أو صناعة أو حرفة أو راتب أو مَغَلٍّ أو نفقة واجبة إلا أن يكون من العاملين عليها ، أو المجاهدين في سبيل الله ، أو الغارمين لإصلاح ذات البين ، ولا تدفع الزكاة في إسقاط واجب سواها ، فلا تدفع للضيف بدلا عن ضيافته ، ولا لمن تجب نفقته من زوجة أو قريب بدلا عن نفقتهما ، ويجوز دفعها للزوجة والقريب فيما سوى النفقة الواجبة ، فيجوز أن يقضي بها دينا عن زوجته لا تستطيع وفاءه ، وأن يقضي بها عن والديه أو أحد من أقاربه دينا لا يستطع وفاءه ، ويجوز أن يدفع الزكاة لأقاربه في سداد نفقتهم إذا لم تكن واجبة عليه لكون ماله لا يتحمل الإنفاق عليهم أو نحو ذلك ، ويجوز دفع الزوجة زكاتها لزوجها في قضاء دين عليه ونحوه ؛ وذلك لأن الله سبحانه علق استحقاق الزكاة بأوصاف عامة تشمل
من ذكرنا وغيرهم ، فمن اتصف بها كان مستحقا ، وعلى هذا فلا يخرج أحد منها إلا بنص أو إجماع ، فعن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالصدقة ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إنك أمرت بالصدقة وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق به ، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق مَنْ تصدَّقْتُ به عليهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم ) (متفق عليه) . وعن سلمان بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الصدقة على الفقير صدقة وعلى ذوي الرحم صدقة وصلة ) (رواه النسائي والترمذي وابن خزيمة والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .) ، وذوو الرحم هم القرابة قربوا أم بعدوا .
ولا يجوز أن يُسْقِط الدَّيْن عن الفقير وينويه عن الزكاة لأن الزكاة أخذ وإعطاء . قال الله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرَدُّ على فقرائهم ) ، وإسقاط الدين عن الفقير ليس أخذا ولا ردا ، ولأن ما في ذمة الفقير دين غائب لا يتصرف فيه فلا يُجْزِئ عن مال حاضر يتصرف فيه ، ولأن الدين أقل في النفس من الحاضر وأدنى ، فأداؤه عنه كأداء الرديء عن الجيد ، وإذا اجتهد صاحب الزكاة فدفعها لمن يظن أنه من أهلها فتبين بخلافه فإنها تجزئه ؛ لأنه اتقى الله ما استطاع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قال رجل : والله لَأَتَصَدَّقَنَّ ( فذكر الحديث وفيه : ) فوضع صدقته في يد غني ، فأصبح الناس يتحدثون : تُصُدِّقَ على غني ، فقال : الحمد لله على غني ، فأتي فقيل : أما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله ) (متفق عليه) ، وفي رواية لمسلم : ( أما صدقتك فقد تُقُبِّلَتْ ) ، وعن معن بن يزيد رضي الله عنه قال : ( كان أبي يُخْرِج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد ، فجئت فأخذتها فأتيته بها ، فقال : والله ما إياك أردت فخاصمتُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لك ما نويتَ يا يزيد ، ولك ما أخذتَ يا معن ) (رواه البخاري) .
إخواني : إن الزكاة لا تجزئ ولا تُقْبَل حتى توضع في المحل الذي وضعها الله فيه ، فاجتهدوا رحمكم الله فيها واحرصوا على أن تقع موقعها وتحل محلها ؛ لتُبْرِئوا ذممكم وتُطَهِّروا أموالكم ، وتُنَفِّذوا أمر ربكم ، وتُقْبَل صدقاتكم ، والله الموفِّق ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تكريمه صلى الله عليه وسلم

الدعاء للطفل

خذي منى العفو تستديمي مودتي